عندما استمعت الى عامر العريض يقول في سهرة 16 أفريل أن النهضة تفكر في التفريط في مؤسسات الاعلام العمومي للخواص وثنّى عليه بعد يومين راشد الغنوشي بتأكيد أن الحكومة بصدد التفكير في “اجراءات راديكالية في حق الاعلام من بينها الخوصصة” لست أدري لماذا عادت الى ذهني فجأة فكرة قديمة كنت تناسيتها ما يقارب السنتين وهي اعلان الجنرال عمر حسن البشير يوم الأحد 19/ 12/2010 أن الشريعة الإسلامية ستصبح “المصدر الرئيسي” للدستور السوداني “إذا اختار الجنوب الانفصال” في استفتاء 9 جانفي 2011 .
وصاح كعادته قائلا : “إذا اختار الجنوب الانفصال سيُعدل دستور السودان وعندها لن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي وثقافي وسيكون الإسلام والشريعة هما المصدر الرئيسي للتشريع”. والغريب أن شعب جنوب السودان لم تؤثر فيه هذه التهديدات واختار ما رآه صالحا به ولم نسمع عن أي تعديل أجري أو سيجرى على الدستور السوداني .
من جانبها تقول النهضة ما معناه : ان الاعلام الذي لمناه ونهيناه على صنيعه (عماذا بالضبط؟) ودعونا ممثليه للتحاور مع رئيس الحركة ومع رئيس الحكومة لم يستوعب الدرس لذا فاننا سنبيعه في السوق لمن يشتري .
الموقفان يتشابهان في عدة أوجه .أن الخوصصة والشريعة وقع التعامل معهما بمثابة العقاب الذي يسلط على مجموعة لم ترض صاحب القرار الذي بيده الحل والعقد : هذا بموجب انقلاب حصل في 30 جوان 1989 والآخر بموجب انتخابات 23اكتوبر 2011 التي توجت مرحلة انتقالية أولى وفتحت على مرحلة انتقالية ثانية ننتظر استكمالها بصياغة دستور جديد لتونس وليس لها أن تبت في قضايا بهذه الأهمية .
القراران يتطلبان أيضا دراسة وتمحيصا : ونحن نعرف أن خوصصة ممتلكات المجموعة الوطنية يستوجب قبل اعلانه اجراء الدراسات اللازمة وتقدير حجم الموجودات بالمؤسسات المعنية والعائد المرتقب منها : العائد السياسي والاجتماعي والمالي فضلا عن انعكاسات الخيار على الأداء المهني للمؤسسات الاعلامية خصوصا اذا عيب على هذه المؤسسات نقص في المهنية . ونحن نعرف أن الخوصصة طرحت كخيار ضمن منوال التنمية الليبرالي الذي اعتمدته جل بلدان العالم ولكن بهدف اكساب المؤسسة الاقتصادية أو حتى الاعلامية المردودية المطلوبة والهدف لن يتحقق في غياب الدراسة العميقة والرأي السديد .
أما قرار تبني الشريعة في الحالة السودانية والذي وصفه الملاحظون وقتها ب”الخبر المزلزل ” فقد أولدته حالة يأس وصيغ بأسلوب مزاجي فكان كلاما في الريح وقد انقضى أكثر من سنة على استفتاء السودان وكأنه لم يكن.
الفارق الوحيد بين الوضعيتين تمثل في التعليل الذي ساقه راشد الغنوشي حين تساءل قائلا :
“لماذا تبقي الديمقراطيات المعاصرة على الاعلام الرسمي؟” والحال أن الاعلام العمومي موجود في كل البلدان ديمقراطية كانت أو غير ديمقراطية ولكن الفارق بينها هو ما تفعله هذه وتلك بالاعلام العمومي :الديمقراطيات تضع نفسها في مقابل الاعلام من ناحية والرأي العام من ناحية أخرى وتعتبر أن نجاح المعادلة الثلاثية هي احدى شروط نجاح الديمقراطية وتوفق الاعلام في مهمته .ومن ثم تحرص الديمقراطيات على توفير امكانيات العمل للاعلام عموميا كان أو خاصا وتعطيه هامش التحرك والنشاط. أما الأنظمة غير الديمقراطية فلا تعترف للاعلام الا بعلاقة ثنائية يرتبط بها معها وليس للرأي العام وللمواطن أي حق في الاعلام أو في ابلاغ صوته . فتسعى هذه الأنظمة الى توجيه الاعلام والتدخل في شؤونه واذا قاوم تسلط عليه العقوبات الجماعية وتهدده بالخوصصة .وتظل هذه الأنظمة متشبثة بقوالب من نوع نحن نمثل ارادة الشعب فمن يجرأ على الانقلاب عليها؟ .