تونس- أفريكان مانجر
جاء في ورقة دراسية نشرتها مؤخرا مؤسسة واشنطن وأعدها الباحث أندرو جيه. تابلر تحت عنوان “«داعش» قد يصبح صوت السُنة إذا لا يتم إيجاد وسيلة لوضعه عند حده قريباً”، أن منطقة الدول العربية أصبحت فعليا تحت تهديد السنة المتطرفة عبر “داعش” التي قد ترسم خارطة المنطقة من جديد في حال لم يتدخل أتباع “السنة المعتدلة”.
ولاحظت الدراسة أن للولايات المتحدة الأميركية دورا كبيرا للتصدي لانتشار السنة المتطرفة التي اصبحت تمثل خطرا حتى على داعميها من أنظمة ملكية خليجية وعلى رأسها السعودية للتصدي للمد الشيعي.
وأكد التقرير الأميركي على أهمية دور عدة أطراف من طوائف متعددة على غرار الشيعة المعتدلة وأيضا نظرائهم من السنة والأكراد للتصدي للمد الداعشي إلا أن محرر الدراسة لم يستبعد “الحاجز” المذهبي لاسهام هذه الأطراف في القضاء على داعش التي تلقى تعاطفا حتى من السنييت المعتدلين أنفسهم بسبب حقدهم على الشيعة.
كما أشار إلى تداخل المصالح بين الطوائف لارتباطها بنفوذ الحكم مستشهدا بالمثال السعودي الذي يخشى تهديدا من الشيعة وما اضطره إلى غض الطرف عن تهديدات داعش للمنطقة بأكملها لانتماء هذا التنظيم لذات الطائفة التي ينتمي إليها ملوك الخليج عامة والذين أتى بهم الغربيون أصحاب القرار في المنطقة العربية.
تقوية السنة المعتدلة
واعتبر التقرير أن الضربات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة هذا الأسبوع قد تساعد في دحر زحف «الدولة الإسلامية»، لكن إذا كان الشعب الأمريكي لا يريد فعلاً الانجرار إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، يجب على واشنطن أن تدعّم هذه المكاسب من خلال العمل مع حلفائها العرب على تقوية السنة المعتدلين القادرين على ملء الفراغ الذي قد تخلفه هزيمة «داعش» في سوريا والعراق.
ولاحظ الباحث الأميريكي أن قوة «الدولة الإسلامية» تنبع من فعاليتها في ضمّ المسلمين السنة إلى صفوفها من أجل مقاتلة ما تعتبره أنظمة شيعية مدعومة من إيران في كل من بغداد ودمشق. فالمحاولات التي قام بها الأسد والمالكي لإرضاخ السنة في بلديهما، سواء بالترهيب أو بالترغيب، أدت إلى استقطاب الجهاديين من جميع أنحاء العالم إلى سوريا والعراق.
شبكات التمويل
وعلى خلاف التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تعتمد على شبكات التمويل والمحسنين الأثرياء، تركز «داعش» على الاكتفاء الذاتي من خلال الابتزاز وبيع المنتجات النفطية وفرض الضرائب والرسوم لتوليد العائدات. وتتيح لها هذه الأموال تنفيذ عمليات تدرّ لها المزيد من مصادر الربح، بما في ذلك ملايين الدولارات من مصارف الموصل والمعدات العسكرية الأمريكية. وتستخدم هذه الغنائم غير المشروعة لشراء موالاة الجماعات والقبائل المحلية ودعمها.
عقوبات صارمة
وفي المقابل أرست «الدولة الإسلامية» النظام وفرضت العقوبات الصارمة على مخالفات الشريعة الإسلامية فيما أمّنت حماية السكان المحليين من نظامَي الأسد والمالكي. كما تعيد إحياء فخر المسلمين السنة بفضل غاراتها الناجحة على الجيش العراقي والقوات السورية التي استولت على مصانع تكرير النفط وحقول الغاز. وكل ذلك دفع زعيم «داعش» إلى عدم الاكتفاء بإعلان «الدولة الإسلامية»، بل قام أيضاً بإعادة “الخلافة الإسلامية” التي تم حلُّها رسمياً قبل تسعين عاماً.
تولي ايران مشكلة داعش
وكشف التقرير أن البعض اقترح دعوة إيران إلى تولّي مشكلة «داعش» بالنيابة عن الولايات المتحدة كجزء من “صفقة كبرى” حول برنامجها النووي. إلا أن تلك المحادثات لا تسير على ما يرام وحتى إذا انبثق عنها اتفاق، يقول المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون أن مسألة طموحات إيران النووية والإقليمية ستبقى “محدودة الأهداف ومعزولة البيئة” لأسباب تقنية وسياسية. وعلاوة على ذلك، يرفض خامنئي بقوة العمل مع الولايات المتحدة ولم يمنح الرئيس روحاني أي سلطة على الملفات العراقية أو السورية، خلافاً لقبوله على مضض بالمفاوضات النووية التي سعى من خلالها إلى تخفيف العقوبات. بالإضافة إلى ذلك لا تقدّم القوات المدعومة من إيران منفعة إيجابية تُذكر: فالجماعات المسلحة المدعومة أو المدربة من قبل «قوة القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني (وهي الهيئة المسؤولة عن تدريب الجماعات الممثلة لإيران والمدعومة من قبلها) على غرار «حزب الله» و«سرايا الدفاع الوطني»، تملك قدرة شبه معدومة على العمل بعيداً عن عمقها الاستراتيجي في إيران ولبنان. والأسوأ من ذلك هو أن إيران تشجع التشدد الطائفي الذي يدفع السنّة إلى التعاون على مضض مع «داعش» على اعتبارها أفضل من فصائل الموت التي ترعاها إيران.
من نفس الفصيلة
وفي الواقع أن “السنّة المعتدلين” الذين يكثر الكلام عنهم ينحدرون من الديمغرافية نفسها التي تتحدر منها «الدولة الإسلامية» وتنظيم «القاعدة»، بحسب الباحث الأميريكي، لكن الدول العربية السنية تفتقر إلى تنظيم “شبيه بـ «قوة القدس»” لتدريب السنة المعتدلين.
وفي الوقت نفسه كان المجتمع العربي السني يدعم إلى حدٍّ ما الجهاديين بالأموال والرجال، مقلّداً الأدوات المتدنية الكلفة لـ «قوة القدس» في دعم الفصائل الشيعية المتطرفة إنما بدون عنصر الانضباط. وكل ما فعله افتقار الدولة إلى الهدف الموحد هو أنه فاقم الانقسامات في صفوف السنة السوريين والعراقيين.
دور الأردن وتركيا السري
وحتى الدول المجاورة لسوريا ليست بموقع يخولها اجتثاث «داعش» من الجذور، بل هي تفضّل احتواء الأزمة داخل سوريا -وذلك بدرجات نجاح متفاوتة. وحتى الآن، كانت الأردن هي الأنجح بين هذه الدول حيث ضبطت حدودها مع سوريا منذ بداية الأزمة فيما عملت مع الولايات المتحدة على دعم الثوار السوريين سرّاً. ومع ذلك، استقبلت الأردن نحو مليون سوري يعيشون في البلاد خارج مخيمات اللاجئين. وكان خطر الاعتداءات الإرهابية، سواء من نظام الأسد أو من المتشددين السنة، قد دفع الأردن إلى النفور حتى الآن من البرنامج الذي اقترحته إدارة أوباما بشأن تدريب المعارضة السورية وتجهيزها بشكل أكثر علانية.
أما تركيا التي تملك الحدود الأطول والأكثر انفتاحاً مع سوريا، فلم تبدأ إلا في الآونة الأخيرة بالتحرك لقمع الحركات الجهادية التي تعمل من أراضيها نحو سوريا – لا سيما بعد أن احتجزت «داعش» الرهائن في القنصلية التركية في الموصل. وعلى غرار الأردن، لا تريد أنقرة التدخل في سوريا بسبب خوفها من وقوع الاعتداءات الإرهابية على أراضيها، ولسخرية القدر باتت ترى في الأكراد – أعدائها التاريخيين – أفضل حلفائها بوجه احتواء «الدولة الإسلامية».
انقسامات داخلية واسرائيل تتدخل سرا
وبسبب ما تعانيه لبنان والعراق من عجزٍ وانقسامات داخلية فإن البلدين عاجزان عن التدخل في سوريا، باستثناء عبر الجهات الحكومية الفرعية كـ «حزب الله» الذي نسّق في الوقت نفسه مع الحكومة اللبنانية لاحتواء التداعيات القادمة من سوريا. ومن جهتها، فضلّت إسرائيل البقاء خارج سوريا بتفضيلها [اتباع سياسة] الاحتواء، باستثناء المساعدات السرية التي قدمتها لبعض الجماعات في الجنوب ومعالجة الجرحى.
انتصارات داعش والتقسيم الجديد
وإذا ما استمرت انتصارات «داعش» الأخيرة، فلن يترتب عنها مخاطر إعادة ترسيم حدود “سايكس-بيكو” فحسب بل ستصبح «الدولة الإسلامية» والجهاديين بشكل عام الصوت الحقيقي والسلطوي للسُّنة في الشرق الأوسط. فالانتصارات المتسمرة للقوات الجهادية تهدد الأنظمة الملكية في الخليج العربي، لا سيما المملكة العربية السعودية التي اضطلعت بالدور السياسي الأول في الإسلام منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 بصفتها حارسة للحرمين الشريفين. إلا أنّ هزيمة القوات الجهادية على يد نظامَي الأسد والمالكي يهدد هو أيضاً بتفجير الأوضاع الداخلية ضد الأنظمة الملكية في الخليج – وبالفعل استغل بعض الحكام النفوذ السلفي والتعاطف العام مع المعارضة السنية السورية كذريعة لعدم التصدي في وقت سابق للشبكات المالية الجهادية.
ونظراً للانتصارات التي حققتها «داعش» في الآونة الأخيرة، سيكون من التفاؤل اعتبار طموحاتها محصورة بإقامة الخلافة بين دجلة والفرات. فقد نقلت «الدولة الإسلامية» قواتها نحو الحدود الأردنية والسعودية فيما نفّذ عناصر التنظيم هجوماً ناجحاً هذا الأسبوع على مواقع الجيش اللبناني عند الحدود مع سوريا واحتجزوا أسرى أيضاً.
اعتداءات داخل الدول الأصلية للارهابيين
وفي غضون ذلك، يقول المحللون والمسؤولون الأوروبيون والأمريكيون إنّ المئات – إن لم يكن الآلاف – من مقاتلي «داعش» و«القاعدة» في سوريا و «الدولة الإسلامية» يخططون على الأرجح للقيام باعتداءات في بلدانهم أو في أماكن أخرى. ومن بين هؤلاء محسن الفاضلي، الرئيس الأسبق لشبكة التسهيل الإيرانية التابعة لتنظيم «القاعدة»؛ وسنافي النصر، زعيم “لجنة النصر” السورية التابعة لـ تنظيم «القاعدة»؛ ووفا السعودي، الرئيس السابق للأمن ومكافحة التجسس في «القاعدة»؛ فضلاً عن العضو المؤسس في تنظيم «القاعدة» فراس السوري.
وقد أفادت التقارير أيضاً أن عناصر من «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» موجودون في سوريا، الأمر الذي يدل على تنامي فرصة الاتصال والتنسيق والتخطيط والتزامن مع «جبهة النصرة» والجهاديين الآخرين. ومع الأخذ بعين الاعتبار وحدات الجهاديين الوطنية من الصين والقوقاز وليبيا ومصر والسويد وما بعدها، تصبح «الدولة الإسلامية» بالفعل النسخة التالية من “المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية” في أفغانستان أو باكستان بحيث تصبح ملاذاً آمناً دائماً وأرضاً لتدريب الإرهاب الإسلامي العالمي.
صمود داعش
ونظراً لتوطيد مكاسب «الدولة الإسلامية» وعدم اهتمام جيرانها أو عدم قدرتهم على اقتلاع هذا التنظيم في العراق وسوريا، يحتمل أن تصمد «الدولة الإسلامية» في غياب سياسة أمريكية أكثر حزما وتنسيقاً تشمل عمليات عسكرية وسياسية. ولن يشكّل العمل مع إيران وعملائها في حكومتَي المالكي والأسد أيّ حلٍّ للمشكلة بسبب ضعف القدرات العسكرية لدى الدولتين وكذلك بسبب تشجيع الأعمال الوحشية الطائفية ضد السنة في كلا البلدين. وفي حين قد تكون إيران وحلفاؤها جبهةً محايدة أمام توسع «داعش»، فإن تقوية إيران وحلفائها الآن سيكون بمثابة صبّ الزيت على النار الطائفية.
معادلة صعبة
إذا كانت واشنطن تسعى لإيجاد “المعادلة التي تلبي تطلعات” السُّنة كما وصفها الرئيس أوباما خلال مقابلة أخيرة له مع صحيفة نيويورك تايمز، أو “التوازن الجيوسياسي” بين إيران والعرب الذي كان قد أوضحه في الخريف الماضي، فسوف تكون واشنطن بحاجة إلى العمل مع الحلفاء في العراق ودول الخليج العربي لتهدئة التوترات وأخذ السنة في سوريا والعراق في اتجاهٍ أكثر اعتدالاً. ولا يخفى أن هذه المهمة ستكون شاقةً للغاية؛ فالجهاديون لا يزالون يرددون أنّ أمريكا تشن حرباً على السنة منذ أحداث 11 سبتمبر.
وبالتالي يرسم هذا التقرير صورة قاتمة للمنطقة المهددة بالتطرف العنيف وفتنة دموية تعود جذورها إلى نحو 1400 سنة وإلى درجة يصبح التكهن بمستقبل المنطقة صعبا في ظل تداخل العوامل الطائفية من جهة والنفوذ من جهة ثانية.
ع ب م