تونس- أفريكان مانجير
تم غلق ملف إقالة محافظ البنك المركزي التونسي مصطفى النابلي أخيرا على إثر الموافقة بالأغلبية من طرف المجلس الوطني التأسيسي على قرار إقالته التي أحدثت سجالا سياسيا في تونس على امتداد شهرين لتلهي مسألة إقالته عن الوضع الاقتصادي الحالي الذي وصفه أمس النابلي بالخطير.
ويرى النواب الممثلون لحكومة الترويكا المؤلفة من أحزاب “النهضة” و”المؤتمر” والتكتل”، أن النابلي كان سببا في ما آل إليه الاقتصاد التونسي حاليا من تضخم مرتفع وتدنّ لقيمة الدينار التونسي ونقص للاحتياطي الأجنبي من العملة.
بدورها اتهمت النائبة سامية عبو زوجة الوزير المستقيل للاصلاح الإداري وممثلة عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بالمجلس التأسيسي، اتهمت مباشرة المحافظ البنك المركزي بأنه عمل ضد مصلحة الوطن وعمد إلى إغراق الاقتصاد التونسي عبر ضخ سيولة ضخمة بالسوق النقدية مما أدى إلى تفاقم التضخم.
في المقابل، فإن النائبة التي حاولت إظهار معرفتها للأرقام الاقتصادية ونواميس السياسة النقدية، لامت محافظ “المركزي” على عدم تقويته رؤوس أموال البنوك العمومية من دون توضيح طريقة الدعم ولا آلية للقيام بهذه العملية، خاصة وأنه ليس دور البنك المركزي تقوية روؤس أموال البنوك بل دوره المطالبة بها من رؤساء إدارة هذه البنوك.
سيولة ضخمة
ويلاحظ أن البنك المركزي التونسي وبعد ثورة 14 جانفي 2012 عمد إلى ضخ سيولة ضخمة وإعادة تمويل البنوك لتغطية نقص الأموال لديها مقارنة بما يحتاجه السوق من تمويل.
وبلغت قيمة هذه السيولة وإلى حد يوم اليوم الخميس 19 جويلية 2012 نحو 5.24 مليارات دينار مقابل 3.41 مليارات دينار، حسب أرقام محدثة، دأب البنك المركزي التونسي على نشرها بصفة منتظمة على موقعه.
ويشير مراقبون اقتصاديون في هذا السياق إلى أن السوق النقدية التي تهم المعاملات النقدية ما بين البنوك، كانت تسجل فائضا في السيولة قبل ثورة 14 جانفي 2010 ناهز 600 مليون دينار وهو ما كان يقتضي تدخل البنك المركزي لسحب هذه السيولة وامتصاصها ورفع معدل الاحتياطي الإلزامي المفروض على البنوك وإيداعه لدى البنك المركزي لتتجاوز نسبته 10% وما يعادل 4 مليارت دينار من إجمالي احتياطي البنوك مقابل نحو 2% حاليا.
وحسب متخصص في المجال النقدي فضل عدم الكشف عن هويته، فإن محافظ البنك المركزي التونسي الذي تمت إقالته، فضّل على ما يبدو اللجوء إلى البديل الأقل سوءا في مثل هذه الظروف الصعبة الاقتصادية التي تمر بها تونس وهي ضخ السيولة لفائدة البنوك في محاولة منه لتفادي كارثة أكبر والمتمثلة في حالة الهلع التي قد تصيب المدخرين أموالهم لدى البنوك عند اضطرار البنوك إلى إغلاق أبوابها أمامهم في صورة عدم توفر السيولة.
ويضيف محدثنا بالقول: “إننا كخبراء في المجال المصرفي نتفهم لجوء النابلي لهذه السياسة النقدية من خلال ضخ السيولة لهذه البنوك وإلا لشاهدنا صفوفا طويلة من المواطنين يرابطون أمام البنوك لسحب أموالهم،” ويوضح قائلا: “في صورة عدم لجوء البنك المركزي إلى خيار ضخ السيولة، فإن البنوك تصبح غير قادرة على تمويل زبائنها وهو ما قد يفجر حالة من الفزع بين صفوف المواطنين الذين يسارعون إلى بسحب أموالهم”.
ورغم التضخم الذي أسهم في إفرازه ضخ السيولة الكبير في السوق النقدية إلا أن سياسة البنك المركزي تمكنت إلى حد كبير من خلق أجواء ثقة بين البنوك والمدخرين لديها.
ويرى مراقبون أن لجوء البنك المركزي إلى سياسة ضخ السيولة يبقى ظرفيا إلى حين رجوع العجلة الاقتصادية وتحقيق عائدات التصدير من سلع وخدمات وعلى رأسها قطاع الفسفاط والسياحة التي انكمشت مداخيلها منذ العام الماضي.
“الشماعة”
ويبدو أن البنك المركزي التونسي كان شماعة الحكومة التونسية لتعلق عليه أخطاءها ولتحمله تداعيات الاضطراب الاقتصادي الذي تشهده تونس منذ الثورة والذي كان يفترض تدخلا طارئا واستثنائيا للحكومة الحالية لإخراج الاقتصاد التونسي من صعوباته الظرفية.
ويضيف مراقبون أن البنك المركزي أقر في نهاية الأمر السياسة النقدية التي تتلاءم والظرف الاقتصادي الحالي وليس من دوره إنعاش الاقتصاد.
وحول اتهامات بعدم تدخل البنك المركزي التونسي لدعم رؤوس أموال البنوك، يرى الخبير في المجال النقدي أن هناك خلطا كبيرا على ما يبدو حول دور البنك المركزي التونسي، الذي يعتبر المؤسسة التي تفرض على البنوك عند الضرورة دعم مواردها الذاتية عبر الزيادة في رأس مالها.
وتعاني البنوك التونسية ومنذ عهد النظام السابق، وخاصة منها ذات المساهمة العمومية، نقصا في أموالها الذاتية ومن نسبة ضعيفة لكفاية رأسمالها وهو ما يتطلب زيادة في رأسمالها.
وحسب محلل مالي، فإن الحكومة هي صاحبة القرار بخصوص الزيادة في رأسمال هذه البنوك ذات مساهمة من الدولة. وكان البنك المركزي دفع في السابق إلى هذه الزيادة. ويستبعد المحلل المالي تنفيذ هذه الخطة في الوقت الحالي بسبب الفترة الانتقالية التي تمر بها تونس، مرجحا أن تنفيذ مثل هذا القرار يتطلب
استقرارا سياسيا واقتصاديا بالأساس حتى تصبج الدولة قادرة على ضخ السيولة في رؤوس أموال هذه البنوك وبقرار من الحكومة استجابة لمطالبة البنك المركزي بالزيادة في رأس المال.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن هامش تحرك محافظ البنك المركزي اللاحق يبقى ضيقا لمحاولة إخراج السوق النقدية من صعوباتها الحالية ما لم يتزامن ذلك مع إنعاش احتياطي “المركزي” بالعملة الأجنبية بفضل تحسن الاقتصاد ودخول القروض الخارجية التي تقوم الحكومة التونسية بابرامها حاليا.
وفي انتظار السياسة النقدية البديلة التي سيقررها محافظ البنك المركزي التونسي الجديد، يبقى السجال قائما حول ما ستكون هذه السياسة لمصلحة “الوطن” بحسب قول إحدى النائبات في المجلس التأسيسي أم لأغراض سياسية لفائدة حكومة الائتلاف الحالية بحسب المشككين في النوايا الحقيقية لقرار إقالة مصطفى كمال النابلي وهو ما قد ينبئ بكارثة حقيقية وبكل المقاييس، تهدد استقرار تونس.
عائشة بن محمود