يقتضي الاحتكام الى طرف ثالث ( القضاء أو لجان التحقيق ) من الأطراف المعنية دائما سلوكا محددا أقله الالتزام بقواعد الاحتكام ونتائجه مهما كانت . وتتمثل احدى هذه القواعد في صرف الجهد خلال مسار الاحتكام نحو تعزيز الملف عن طريق الحجج والبراهين والقرائن لاثبات الحق في حال القضاء . وفي حالة الاحتكام الى لجان تحقيق ينصب الجهد على توفير الأدلة والبراهين والقرائن أيضا لاقناع اللجان بسير الوقائع وفق المسار الذي يدعيه الطرف المعني . وفي كل الحالات يلتزم صاحب القضية بالتوجه الى الجهة المحددة وحدها ويتركز جهده على تعزيز حجته ومرافقة ذلك في مراحل محددة بنوع من الصمت لكي لا يتم التشويش على الأطراف التي يتم الاحتكام اليها .
ومنذ واقعة شارع الحبيب بورقيبة سال حبر كثير وتناولت القنوات الاذاعية و التلفزية الموضوع وعرضت بالشواهد والأدلة حجج مختلف الأطراف . وكنا نتوقع أن تكفّ الأطراف المعنية عن هذا التمشّي بمجرد الاعلان عن تكوين لجنتي التحقيق وتركيز الجهد على تجميع الأدلة وتبويبها في انتظار عرضها عليهما .ولكننا فوجئنا بالأمور تسير وكأنما اللجنتان لم يعلن عنهما . والمقدمات عادة ما تحدد النتائج ومن تعامل مع الاعلان عن تكوين اللجنة كأنه لم يكن ربما يتعامل مع نتائجها وفق نفس القاعدة . وما نتخوّف منه حقا تكريسا لهذه الروح هو أن لا تكون نتائج عمل اللجنتين بالفاعلية المطلوبة لا لنقص كفاءة أعضائهما وانما للتعامل الانتقائي مع نتائج عملهما كأن يكون بصيغة :اذا جاءت النتائج وفق ما أرى فأهلا وسهلا واذا حصل العكس فلا أهلا ولا سهلا .
ان المناضلين الذين يدافعون عن قضايا عامة تخص الجميع (كالديمقراطية وحرية التظاهر والتعبير وغيرها …) تلزمهم الأخلاق النضالية أن يتقيدوا بقواعد الاحتكام الى طرف ثالث وهي القواعد التي تقوم على التعامل بمهابة مع الحكم منذ قرار التوجه اليه واحترامه وعدم التشكيك في نزاهته والتسليم بنتائج حكمه وبذل الجهد لمساعدته في أداء مهمته من خلال توفير الأدلة التي تكشف سير الوقائع حسب رؤية الطرف النضالي دون فرضها أو الزام الحكم بها تحت مقولة : “اما رأينا أو … ”
الصمت الاعلامي المطلوب والذي كنا نتوقّع أن تلتزم به الأطراف تلقائيا يقابله عمل صامت لتوفير الأدلة والبراهين في انتظار قيام اللجنتين . ويقابله عمل معلن ونقاش صريح حول تركيبتهما ومعنى استقلالية الأولى (الحكومية) والثانية (لجنة التأسيسي) التي ستتشكل على قاعدة الكتل النيابية (محاصصة ؟) ونحن نعرف أن العديد منها طرف في الأحداث . وما هو مآل نتائج عمل اللجنتين في حال تعارضها . هذه الأسئلة كنا نتمنى أن يخوض فيها المتدخلون وتطرح أمام الرأي العام في مقابل الصمت الاعلامي التام عن الوقائع ذاتها والتي يجب أن يترك أمرها بالكامل للجنتين . ولكن تشاء الظروف في بلادنا في أغلب الأحيان أن تمشي الأمور بما لا تشتهي سفن الديمقراطية الناشئة .