تونس- أفريكان مانجير
في وقت تعمّ فيه فوضى سياسية غير مسبوقة في تونس زادت احتداما مؤخرا بعد تبيّن وجود ثغرات في صلاحيات الرئاسات، يتدخل كالعادة زعيم حزب “النهضة” راشد الغنوشي، بوصفه “رجل المهمات الصعبة” لإنقاذ ما يمكن انقاذه في محاولة منه للحفاظ على بقاء حكومة “الترويكا” المهددة بالسقوط والتي يتزعمها حزب “النهضة”.
ويلاحظ أنه تم اطلاق العديد من الصفات على راشد الغنوسي على غرار “مرشد الثورة التونسية” و”الزعيم الروحي للثورات العربية” و”المرشد الأعلى للحكومة” وغيرها من النعوت والصفات التي تؤشر على الدور الخفي الذي يلعبه في الكواليس راشد الغنوشي، وبالأساس منذ فوز حزب النهضة بأكثرية المقاعد بالمجلس الوطني التأسيسي في انتخابات 23 أكتوبر 2011، ولجوءه إلى تكوين ائتلاف حكومي يترأسه هذا الحزب ذي الخلفية الدينية بعد عجزه عن الفوز بالأغلبية في الانتخابات الماضية.
يشار إلى أن الدولة التونسية تسيرها حاليا حكومة “ترويكا” تتكون من ثلاثة أحزاب من تيارات سياسية متفاوتة وتتمثل في أحزاب النهضة (يميني إسلامي) والمؤتمر من أجل الجمهورية (يساري) والتكتل (وسطي).
وقد كشفت مؤخرا عملية تسليم تونس الوزير الأول الأسبق في النظام الليبي البغدادي المحمودي للسلطات الليبية، عن ثغرات في صلاحيات الرئاسات الثلاث (رئاسة الدولة والحكومة والمجلس التأسيسي) حسب قانون تنظيم السلطات أو ما يعبر عنه بـ”الدستور الصغير” وما تطلّب تدخلا مكثفا وفوريا لراشد الغنوشي لفك صراع يهدد بالانشقاق داخل حكومة الائتلاف.
قطرة جواز سفر
وكان انكشاف تسليم جواز سفر دبلوماسي لزعيم حزب النهضة بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، لتؤجج ردود أفعال المراقبين للشأن السياسي في تونس على الدور الحقيقي الذي يلعبه الغنوشي في الحكم، وإلى حد مطالبة أحد النواب بالمجلس التأسيسي مناقشة هذا الأمر بالمجلس في ظل الغموض والفراغ القانوني الذي يحوم حول منح جواز سفر دبلوماسي لراشد الغنوشي.
وفي رد فعل فوري سارع اليوم الثلاثاء 3 جويلية 2012 وزير الخارجية الحالي رفيق عبد السلام – الذي هو أيضا صهر راشد الغنوشي – إلى تبرير هذا الإجراء واختلاق مبرر قانوني لهذه المسألة بإعلانه أن هناك قرارا رئاسيا يمكّن من الحصول على جواز سفر دبلوماسي من طرف جميع رؤساء الأحزاب الممثلة بالمجلس الوطني التأسيسي، غير أن رؤساء باقي الأحزاب نفت حصولها على مثل هذا الامتياز. علما وأنه عادة ما يتم نشر قرارت رئاسة الجمهورية وأوامرها بالرائد الرسمي، وهو ما لم يثبت إدراجه بالرائد الرسمي إلى حد الآن.
وفي توضيح لمستشار دبلوماسي تونسي متقاعد فضل عدم الكشف عن هويته، فإنه عادة يتم تسليم جوازات السفر الدبلوماسية إلى الدبلوماسيين وأسرهم من الدرجة الأولى (الزوج والأبناء) بالإضافة إلى الوزراء وكتاب الدولة والنواب والمستشارين بمجلس المستشارين سابقا. إلا أن ذلك لا يمنع إقرار حصول تجاوزات خلال النظام السابق بأن يكلف رئيس الدولة الأسبق وزير الخارجية بتسليم جواز سفر لشخصية ما وبمجرد مكالمة هاتفية منه، وهي من سلوكيات الحكم الدكتاتوري الذي يطغى عليه أيضا استغلال النفوذ، بحسب تعبير المصدر الدبلوماسي.
وحسب الفصل التاسع من القانون المؤرخ في 14 ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر، فإنه يتم تسليم جوازات السفر الدبلوماسية مجانا من طرف وزير الخارجية لمدة ثلاث سنوات وتضبط شروط الحصول عليها والتمديد في صلوحيتها وتجديدها وسحبها بمقتضى أمر.
وفي سياق متصل، يعتبر بعض المراقبين السياسيين أن هذا الإجراء تم من منطلق حزبي وعلى أساس القرابة التي تجمع الغنوشي بوزير الداخلية وليس على أساس القانون الذي يضبط سبل التمتع بجوازات السفر الدبلوماسية بالنظر إلى الوظيفة الدبلوماسية والمسؤولية الرسمية.
كما لاحظ موقع “أفريكان مانجير” الإلكتروني من خلال اتصالاته بمتخصصين قانونيين وسياسيين أن كل هؤلاء يقرون بواقع تسيير راشد الغنوشي لدواليب الحكم في تونس. ويشددون على أن زعامته لحزب فائز في الانتخابات التونسية لا يشرّع له تسيير الحكم في تونس، وفي أقصى الحالات يمكن القبول بدور استشاري له على أن لا يكون تنفيذيا وسلطويا، خاصة وأن حزبه لا يتمتع بالأغلبية.
وبغض النظر عن التجاوزات التي تم ملاحظتها على مستوى البروتوكولات الرسمية على غرار استقبالات راشد الغنوشي من طرف أمراء ورؤساء دول مثلما حصل في قطر والجزائر مباشرة بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 14 جانفي 2011، وحضوره بعض المراسم الرسمية في تونس بشكل يوحي بأنه هو صاحب السلطة التنفيذية، فإن مضمون البيانات الرسمية التي يصدرها راشد الغنونشي بصفة متواترة وعند كل أزمة تطرأ بين الأطراف المسيرة للحكم، يوحي أيضا أن هذا الأخير يلعب دورا يتجاوز منصبه بوصفه زعيم الحزب الفائز بأكثرية المقاعد.
ومن أحدث هذه البيانات ذلك البيان الصادر مؤخرا على خلفية أزمة البغدادي التي كشفت عن تداخل الصلاحيات بين رئاستي الحكومة والدولة، بدل صدور مثل هذا البيان عن رئاسة الحكومة، المعنية مباشرة بهذه الحادثة.
أمر مرفوض
ويقول في هذا الصدد شكري بلعيد الناطق الرسمي لحركة الديمقراطيين والمعروف بمعارضته الشرسة للحكومة، إنه ” لا يخفى على أحد أن راشد الغنوشي هو الحاكم الحقيقي للبلاد منذ سيطرة حزبه على الحكم”، مضيفا في اتصال هاتفي مع “أفريكان مانجير” :”أن رئيس الحكومة حمادي الجبالي يمر عادة على بيت الغنوشي قبل الالتحاق بمكتبه في قصر الحكومة،”. وهو أمر يفترض رفضه من باقي ممثلي أحزاب الترويكا في الحكومة التي لا ترى حرجا من أن يتم مناقشة أمور تهم الحكم انطلاقا من مكاتب حزب النهضة وبرئاسة الغنوشي عند حدوث خلافات بينها.
ويشدد بلعيد على أن مثل هذا الأمر مرفوض خاصة وأنه يهدد بالعودة إلى المربع الأول بأن يسيطر الحزب الحاكم على الدولة وليست مؤسساتها وما ينذر برجوع حكم الدكتاتورية.
وحسب متخصص في القانون الدولي بجامعة تونس، رفض ذكر اسمه، فإن مثل هذا التدخل في الحكم من طرف الغنوشي، يذكر بمنظومة “الخامئني” في إيران أو ما يعبر عنه بمرشد الثورة الإيرانية. مردفا بالقول إن وزير الداخلية علي العريض (وهو من حزب النهضة) هو في حقيقة الأمر “مهندس السياسة الداخلية في تونس” فيما ينصب اهتمام الغنوشي بالأساس على تنفيذ أجندا خارجية تتعلق بالأساس بكسب رهان جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها حزبه وعمله على الإسهام في نجاح تجربة هذه الجماعة في الحكم.
ويظهر مدى الدور الذي يلعبه راشد الغنوشي في الحكم من خلال تصريحات له أمس لوكالة الأنباء التونسية بكشفه عن بوادر تطويق الخلافات بين رئاستي الحكومة والدولة بعد اجتماعه برئيس الدولة الحالي المنصف المرزوقي، أيضا من خلال تلويحه لذات المصدر “بإمكانية عودة محمد عبو وزير الاصلاح الإداري المستقيل مؤخرا”.
غير مقبول
وفي سياق متصل يرى رئيس التنسيقية الوطنية المستقلة للعدالة الانتقالية عمر صفراوي، أن تدخل الغنوشي في الحكم غير مقبول سياسيا ولا قانونيا حيث أن حزبه فقط هو المعني بقراراته وما عليه إلا تنفيذها داخل حزبه، مشددا على خطورة هذا الأمر خاصة وأن الحكم في تونس لا يزال في مرحلة انتقالية وما يعني أهمية تأسيس ومنذ البداية، سلطة قائمة على أساس سليم والتمييز بين الحزب والدولة، وفق تعبيره.
ويرى ذات المتحدث أن الأمر ربما هو مجرد اجتهاد من طرف الغنوشي لانجاح الحكم بعد الثورة لكنه قد يأخذ منعرجات خطيرة بأن يؤدي إلى سيطرة الحزب الحاكم على الحكم بدل قيام نظام قائم على مؤسسات دولة ثابتة بقطع النظر عن الحزب الفائز في انتخابات متغيرة.
وينتقد الصفراوي دور الغنوشي الحقيقي بالقول: كان عليه اعتلاء منصب حكومي واضح بعد فوز حزبه بالانتخابات يشرّع له دوره بالحكومة بدل التدخل بطريقة غير مباشرة في الحكم لكن بصفة فعلية.
في نهاية الأمر يمكن القول إن المجلس الوطني التأسيسي هو من المفروض المرجع النهائي للحكم في تونس وبيده ارجاع الأمور إلى نصابها، لكن يبقى دوره محدودا بعد أن عرف حزب النهضة الطريقة “الشرعية” لامتلاك أغلبية تجعل منه صاحب الكلمة الأخيرة عند كل مسألة يتم حسم أمرها في مكتب راشد الغنوشي.
عائشة بن محمود